البدايات

تعود أولى العلامات الأثرية الدالة على وجود مستوطنات دائمة إلى الفترة ما بين 4500-4200 قبل الميلاد. حيث وجدت أدلة تعتبر من الأقدم من نوعها في باريس عام 1991 على استخدام تلك الشعوب البدائية القوارب. (يوجد في متحف كارنافاليه بقايا ثلاثة من هذه القوارب الأثرية) سكنت قبيلة باريسي -إحدى قبائل الغال- المنطقة الواقعة على ضفاف نهر السين في عام 250 قبل الميلاد تقريباً. غزا الرومان باريس في عام 52 قبل الميلاد تقريباً واستوطنوا فيها في أواخر القرن نفسه. سميت المدينة لوتيشيا في عهد الإمبراطورية الرومانية، ثم تغير اسمها إلى ليوتيس. توسعت المدينة بشكل كبير على مدار القرون التالية لتصبح مدينة مزدهرة تحتوي على القصور والحمامات والمعابد والمسارح.

 

أدى انهيار الإمبراطورية الرومانية، جنباً إلى جنب مع الغزوات الجرمانية في القرن الخامس الميلادي إلى تراجع أهمية المدينة بشكل جلي. وفي حلول عام 400، هجرت “ليوتيس” من قبل العديد من سكانها وتضاءلت أهميتها. استعادت المدينة اسم باريس عام 360 تقريباً في نهاية عصر الاحتلال الروماني، عندما أُعلن يوليان المرتد إمبراطوراً. تمّ هذا الإعلان في إيل دو لا سيتي وهي جزيرة واقعة في نهر السين. أقام يوليان في هذه المنطقة ثلاث سنوات، مما جعل من باريس العاصمة الفعلية للإمبراطورية الغربية.

عصر الميروفنجيون

كانت منطقة باريس تحت سيطرة الفرنجة في أواخر القرن الخامس. جعل الملك الفرنجي كلوفيس الأول أول ملوك سلالة ميروفنجيون من باريس عاصمة لبلاده عام 508 وأعاد سكان المدينة إلى المسيحية مرة أخرى. قام ملوك سلالة كارولنجيون بجعل مدينة آخن (الواقعة في ألمانيا في الوقت الحاضر) عاصمة للبلاد بدلاً من باريس، وكان ذلك في أواخر القرن الثامن الميلادي. تزامن هذا مع بدء غزوات الفايكنج في أوائل القرن التاسع.

 

وقعت واحدة من أبرز غارات الفايكنج في 28 مارس 845، عندما غزت 200 سفينة إسكندنافية على طول نهر السين باريس، فقاموا بسرقة ونهب المدينة، ولم يغادروها حتى حصلوا على أموال كثيرة قدمت لهم من قبل ولي العهد. تكررت الغزوات على المدينة مما اضطر يوديس -كونت باريس- إلى بناء حصن في إيل دو لا سيتي عام 885.

إلّا أنّ المدينة عانت من حصار شديد استمر ما يزيد عن العام، انتهى في نهاية المطاف في عهد الملك الكارولنجيوني شارل البدين. عاش التاج الفرنسي حالة من النزاع والإضطراب بعد إعلان يوديس نفسه حاكماً، واستمر ذلك حتى عام 987، حينما انتخب كونت باريس أوغو كابيه ملكاً على فرنسا. عادت باريس تحت حكم الملوك الكابيتيون عاصمة من جديد، ويرى العديد من المؤرخين أنّ تتويج أوغو كابيه كان لحظة ميلاد فرنسا الحديثة.

العصور الوسطى وحتى القرن الثامن عشر

أصبحت باريس مدينة مزدهرة مع نهاية القرن الحادي عشر، وتوافد عليها العلماء والرهبان من أجل تبادل الأفكار، كما قام فيليب أوغست ببناء جامعة باريس عام 1200. تصاعدت بعد ذلك قوة النقابات التي تسببت في قيام ثورة في البلاد بعد القبض على الملك الفرنسي من قبل الإنجليز عام 1356. كان عدد سكان باريس حوالي 200,000 عندما وصلها الموت الأسود عام 1348، الذي فتك ب800 شخص يومياً. كما توفي قرابة 40,000 بسبب الطاعون الدبلي عام 1466. كما فتك الطاعون بالمدينة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، حيث كان يزورها سنة كل ثلاث سنوات تقريباً. خسرت باريس مكانتها باعتبارها مقراً لفرنسا بعد احتلالها من قبل الإنجليز إبان حرب المئة عام، لكنها عادت عاصمة للفرنسيين عندما استعادها شارل السابع، على الرغم من أن العاصمة الفعلية كانت فال دو لوار. استمر هذا الحال حتى قيام فرانسوا الأول بنقل مقر إقامته إلى باريس عام 1528.

خلال حروب فرنسا الدينية، كانت باريس معقل الكاثوليكية. وفي أغسطس من عام 1572، في عهد شارل التاسع، تواجد العديد من النبلاء البروستانت في باريس من أجل حضور زفاف هنري النافاري -هنري الرابع ملك فرنسا فيما بعد- ومارغريت شقيقة شارل التاسع، فوقعت حينها مذبحة سان بارتيليمي في 24 أغسطس واستمرت لبضعة أيام وانتشرت في جميع أنحاء البلاد.

قام هنري الرابع عام 1590 بفرض حصار باريس قوبلت بتلقيه تهديدات من فيليب الثاني ملك إسبانيا، فاعتنق هنري الكاثوليكية عام 1594، ورحبت به باريس ملكاً عليها. أنفقت أسرة بوربون مبالغ طائلة من أجل إبقاء سيطرتها على المدينة فبنوا الجسور وغيرها. على الرغم من ذلك، لم يكن أهل باريس سعداء بحكامهم، فقامت ثورة عمت أنحاء المدينة فرت على إثرها العائلة الحاكمة من المدينة. نقل لويس الرابع عشر فيما بعد مقر الإقامة الملكية إلى قصر فيرساي، وكان ذلك عام 1682. نمت سمعة باريس في القرن الثامن عشر إبان عصر التنوير بسبب كتابات مثقفي المدينة أمثال: فولتير ودنيس ديدرو.

الثورة الفرنسية

في نهاية القرن الثامن عشر، كانت باريس المقر الرئيسي للثورة الفرنسية؛ كان موسم الحصاد سيئاً للغاية عام 1788 مما أدى إلى ارتفاع أسعار الغذاء بشكل هائل كما وصلت الديون إلى حد غير مسبوق. في 14 يوليو 1789، جزع الباريسيون من الضغوطات التي مارسها الملك لويس السادس عشر على الجمعية التي شكلتها الطبقة الثالثة، فاقتحموا سجن الباستيل وهو رمز الحكم المطلق. اشتعلت حينها الثورة ورفض الشعب مزاعم الملك بأنه يملك حقاً إلهياً لحكم البلاد. انتخب جان سيلفان بايي محافظاً على باريس في 15 يوليو 1789، وبعدها بيومين اختير علم فرنسا الجديد المكون من ثلاثة ألوان: الأزرق والأحمر يمثلان باريس أما الأبيض فيمثل آل بوربون الذين ينحدر منهم لويس السادس عشر.

أعلن قيام الجمهورية لأول مرة عام 1792. وفي السنة التي تلتها، أعدم كل من لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت في ميدان الكونكورد في باريس والذي كان مسرحاً للعديد من عمليات الإعدام. كانت المقصلة أكثر أدوات الإعدام استخداماً في تلك الفترة. ففي صيف عام 1794، أعدم أكثر من 1300 شخص في شهر واحد فقط. تشكل بعد ذلك مجلس مؤلف من خمسة أعضاء تولى إدارة البلاد حتى أطيح به بعد الانقلاب العسكري الذي قاده نابليون بونابرت الذي وضع حداً للثورة واختير فيما بعد في استفتاء عام إمبراطوراً على فرنسا.

القرن التاسع عشر

احتلت باريس من قبل الروس والحلفاء على إثر هزيمة نابليون بونابرت في 31 مارس 1814، وكانت هذه المرة الأولى التي تحتل في باريس من قبل قوات أجنبية منذ قرابة 400 سنة. تلا ذلك استعادة بوربون حكم فرنسا من جديد، حيث أصبح لويس الثامن عشر ملكاً في الفترة (1814-1824)، تلاه شارل العاشر الذي انتهت فترة حكمه بعد قيام ثورة يوليو 1830. بات نظام الحكم في فرنسا بعد الثورة نظاماً ملكياً دستورياً متمثلاً في الملك لويس فيليب الأول، الذي بدوره قامت عليه ثورة فبراير 1848. قادت ثورة فبراير إلى تكوين الجمهورية الفرنسية الثانية. اجتاح وباء الكوليرا باريس عامي 1832 و 1850، حيث قتل وباء 1832 لوحده 20,000 من أصل 650,000 وهو مجموع سكان باريس في ذلك الوقت، أي حوالي 3% من سكان المدينة.

بدأت كبرى عمليات التنمية في باريس مع الثورة الصناعية، فأنشأت شبكة متطورة من سكك الحديد. أدى هذا النمو إلى زيادة عدد المهاجرين إلى المدينة على نحو غير مسبوق. تطورت باريس بشكل كبير في عهد الإمبراطورية الفرنسية الثانية تحت حكم نابليون الثالث. عهد نابليون الثالث تطوير باريس إلى البارون هوسمان، الذي أزال شوارع باريس الضيقة والمتعرجة التي تعود إلى العصور الوسطى مكوناً شبكة من الطرق الواسعة والواجهات الكلاسيكية الحديثة التي لا تزال تشكل جزءاً كبيراً من باريس الحديثة، مما أعطى المدينة رونقاً خاصاً. لم يؤد هذا التوسع إلى تجميل المدينة فقط, بل زاد من فعالية الجيش ويسّر استخدام المدفعية من أجل مواجهة أي ثورة قد تحدث مستقبلاً.

سقطت الإمبراطورية الفرنسية الثانية خلال الحرب الفرنسية البروسية (1870-1871). استسلمت باريس المحاصرة تحت القصف الشديد في 28 يناير 1871. أبدى سكان سكان باريس امتعاضاً شديداً من الهدنة المهينة التي وقعتها الحكومة الفرنسية القابعة في فرساي إلى تكوين حكومة كومونة باريس مدعومةً بجيش مكون من أعداد كبيرة من أعضاء الحرس الوطني السابقين. قام هذا الجيش بمقاومة القوات البروسية، إلى جانب جيش حكومة فرساي. سقطت حكومة كومونة باريس بعد أسبوع دموي أعدم فيه قرابة 20,000. انتهت الحرب على إثر ذلك في 28 مايو 1871. كان تصميم البارون هوسمان سبباً في انتصار جيش فرساي.

تزايدت أهمية باريس في أواخر القرن التاسع عشر حتى أصبحت مركزاً للتكنولوجيا والتجارة والسياحة والعمارة،[51] حيث يعد برج إيفل -الذي ظل أطول مباني العالم حتى عام 1930- أشهر الأدلة الدالة على تطور العمارة في باريس في تلك الفترة. كما افتتح مترو باريس عام 1900.
القرن العشرون

تحرير باريس، 1944.

خلال الحرب العالمية الأولى، كانت باريس في طليعة المدن المشاركة في الحرب. نجت المدينة من الغزو الألماني بعد انتصار القوات الفرنسية البريطانية على ألمانيا في معركة المارن الأولى عام 1914 التي وقعت على مقربة من المدينة. في 1918-1919، كانت باريس مسرحاً لانتصار الحلفاء وكذلك مفاوضات السلام. في الفترة ما بين الحربين العالميتين، اشتهرت باريس بتجمعاتها الثقافية والفنية والحياة الليلية. كما أصبحت المدينة مركزاً لتجمع الفنانين من جميع أنحاء العالم، من المؤلف الموسيقي الروسي إيجور سترافينسكي إلى الرسام الإسباني بيكاسو ومن الكاتب الأمريكي إرنست همينغوي إلى الرسام الإسباني سلفادور دالي.

في 14 يونيو 1940، بعد 5 أسابيع من معركة فرنسا، سقطت باريس في يد القوات الألمانية. مر الألمان بجوار قوس النصر في الذكرى ال140 لانتصار نابليون بونابرت في معركة مارينغو. ظلت القوات الألمانية في باريس حتى تحررها في أغسطس عام 1944 بعد شهرين ونصف من غزو نورماندي. لم يصب وسط باريس بأذى ملحوظ خلال الحرب العالمية الثانية، حيث لم يكن هناك أهداف إستراتيجية لقاذفات الحلفاء، فالمصانع الكبرى كانت تقع في ضواحي المدينة كما لم تكن السكك الحديدية عرضة للأذى. وعلى الرغم من أوامر هتلر بتدمير المدينة بمعالمها التاريخية، إلا أن القائد الألماني ديتريش فون شولتيتز رفض؛ ما أكسبه لقب “محرر باريس”.

في حقبة ما بعد الحرب، شهدت باريس تطوراً هو الأكبر من نوعه منذ عام 1914. بدأت ضواحي المدينة تتسع بشكل واضح، وبنيت مجمعات كبيرة في المدينة عرفت باسم (cités)، وكذلك إنشاء لا ديفونس (أكبر منطقة أعمال متخصصة في أوروبا). كم تم بناء شبكة مترو الأنفاق (RER) من أجل الوصول إلى الضواحي البعيدة في المدينة. كما وطورت شبكة من الخطوط السريعة لخدمة ضواحي باريس.

منذ سبعينيات القرن الماضي، شهدت العديد من ضواحي باريس (خاصة الشمالية والشرقية) انخفاضاً في النشاط الصناعي، وأصبحت مركزاً لتجمع المهاجرين وارتفعت فيها نسبة البطالة، بينما كانت الضواحي الغربية والجنوبية قد تحولت من مناطق تعتمد على الصناعات التقليدية، إلى مناطق متطورة تعتمد على الصناعات التكنولوجية الفائقة. ترتب على ذلك أن أصبح نصيب الفرد من الدخل في هذه المناطق هو الأعلى في فرنسا، وبين أعلى المعدلات في أوروبا. أدى اتساع الفجوة الاجتماعية بين هاتين المنطقتين إلى وقوع اضطرابات دورية في منتصف الثمانينات، وكذلك وقوع أعمال شغب عام 2005 تركزت في الضواحي الشمالية والشرقية في الغالب.

القرن الواحد والعشرون

يجري الآن تنفيذ مشروع تجديد حضري هائل (Grand Paris) الذي بدأ عام 2007 من قبل الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي. يتألف Grand Paris من مشاريع اقتصادية وبيئية وثقافية ومشاريع تحسين الإسكان والنقل. من أجل توحيد الأراضي وتنشيط اقتصاد العاصمة. واحد من أكبر هذه المشاريع هو مشروع بناء مترو جديد يتألف من 200 كم من الخطوط السريعة التي تربط مناطق باريس الكبرى مع بعضها البعض بتكلفة 26.5 مليار يورو، ومن المفترض الانتهاء من هذا المشروع بحلول عام 2030.

المصدر ويكيبيديا